التكرار
يؤكد المعنى عندما أقول جاء الطالب جاء الطالب فهذا تأكيد أنه قد جاء، لما
أقول الشمس ساطعة الشمس ساطعة فهذا تأكيد أن الشمس ساطعة. فإذا أكّدت
المعنى بأسلوب مختلف فيكون تقوية للمعنى وقد يكون في التكرار زيادة أخرى
مفيدة يؤكد المعنى ياتي بفائدة جديدة، يثبّت، والتكرار في القرآن من أسبابه
أنه كان يثبت الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤكد المعنى ليرسخ المعنى في
نفوس أصحابه. فمن حيث المبدأ لا حرج من التكرار في القرآن وقد جاء التكرار
في القرآن الذي هو أعلى مستوى للغة فإذا كان أعلى مستوى للغة فيه تكرار فما
بالنا في المستوى الأقل؟
سؤال: في قوله تبارك وتعالى في سورة
النساء وهو يتحدث عن العلاقة بين الرجال والنساء (وَإِنْ أَرَدتُّمُ
اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا
فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً
مُّبِيناً (20) النساء) وفي آية أخرى في نفس السورة (وَمَن يَكْسِبْ
خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ
بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا (112) النساء) وفي آية أخرى (وَالَّذِينَ
يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا
فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا (58) الأحزاب) لماذا
تكرار البهتان والإثم المبين؟ وما الفائدة البلاغية والدلالية في ختام هذه
الآيات الثلاث؟
الآيات الثلاث كلها عابت من يكذّبون، السياق في
الكذب. البهتان هو الكذب المُفترى بهت فلان فلاناً يعني ادّعى عليه شيئاً
غير موجود فيه، البهتان أشد الكذب يعني يفتري شيئاً عليه. إفترى الرجل على
الرجل أي بهته أي نسب إليه ما ليس فيه. آية سورة النساء (فَلاَ تَأْخُذُواْ
مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً
(20)النساء) الله سبحانه وتعالى ينهى الرجال أن يأخذوا شيئاً من المهور
المقدمة سابقاً مهنم إلى زوجاتهم، نهى أن يأخذوه ظلماً وعدواناً بدون طيب
خاطر من الزوجة، وأنهى الله الآية بقوله (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً
وَإِثْماً مُّبِيناً) وقف المفسرون عند البهتان قالوا لم يقل الله عز وجل
أتأخذونه ظلماً والأخذ ظلم، يعني يأخذ فلان يأخذ الشيئ بغير حق فهو ظالم
لأن الأخذ ظلم، فلماذا قالت الآية (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً
مُّبِيناً) ولم تقل أتأخذونه ظلماً؟ لأن هذا الظلم الذي أخذوه إنما هو مبني
على كذبٍ ادّعوه لأنفسهم كأن يقول الواحد: هذا فحقي، هذا في الأصل مالي،
هي التي تركتني، وهي التي أساءت معاملتي، هي تستحق أن آخذ مالها، تستحق
العقاب، يبرر لنفسه كذباً وبهتاناً ما يفعله فهو هنا يكذب ليأخذ مالها
فقالت الآية (أتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً) إذن يراعي
الحالة الشعورية للذي يريد أن يأخذ ما أعطاه، والقرآن يهتم بالجانب الدلالي
اهتماماً كبيراً، ما الذي دفعهم إلى الظلم؟ كذبهم وادّعاؤهم أنهم أصحاب
حق.
والآية (وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ
بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا (112)
النساء) هذا أكذب الكذابين لأنه ارتكب الخطيئة، إرتكب الإثم ثم نسب هذا
الإثم إلى بريء فيكون قد كذب مرة في أنه نفى الخطأ عن نفسه ويكون قد كذب
كذبة أكبر في أنه ألصق هذا الإثم وهذا البهتان وهذه الجريمة بشخص آخر بريء.
معنى كلمة (احتمل) عندما نقول حمل الرجل الشيء يعني وضعه على كتفه، على
عاتقه وبذل جهداً كأنما يرفعه من أسفل إلى أعلى - احتمل بمعنى حمل، حَمَل
ثلاثي واحتمل خماسي مزيد بألف وتاء - هذا لم يحمل فقط وإنما بذل جهداً
ليحمل وحمّل نفسه الشيء. (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا
مُّبِينًا) كلمة احتمل فيها دلالة حسية والبهتان شيء معنوي فالآية جسّمت
البهتان والإثم فجعلتهما شيئاً مادياً يُحمل بل ويُحتمل كأن هذا الشخص
مثلما نسب الجريمة إلى غيره وأزاحها عن نفسه فهو بمثابة من يحمل الإثم من
على الأرض ويضعه على كتفه، إذن هو ينفي الإثم والجريمة عن نفسه ويحمّلهما
لغيره. هذه تسمى في البلاغة صورة كُلّية وتشبيه كُلّي، هنا استعارة إحتمل
البهتان هنا أنه شيء مادي يُحمل، استعارة تمثيلية، شبّهت الآية مرة أخرى من
يرتكب جريمة وينسب هذه الجريمة لغيره مَنْ يحتمل الكذب المُفترى ويضعه على
كتفه أو على نفسه ليدل الأمر أن الجزاء من جنس العمل وهو يحمّل نفسه
البهتان والإثم مثلما أراد أن يحمِّل غيره.
أما الآية (وَالَّذِينَ
يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا
فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا (58) الأحزاب) لأنهم
ظلموا غيرهم ونسبوا إلى المؤمنين ما لم يرتكبوه وأساؤوا إلى المؤمنين بغير
ذنب، لأنهم أجرموا ولصقوا الإجرام بغيرهم فهم ظالمون وظلمهم هذا مبني على
الكذب والكافر كذاب والكذب ظلم.
سؤال: ما الفرق بين الخطيئة والإثم؟
الخطيئة
أشد، كلمة الإثم تشمل الشرّ كله. الإثم يقابل البِرّ في الحديث الشريف
يقول صلى الله عليه وسلم "البِرُّ حُسن الخُلُق والإثم ما حاك في صدرك
وخشيت أن يطلّع عليه الناس" إذن الإثم يشمل كل خطأ وكل عيب، الخطيئة تأتي
في الذنب الكبير تدل على أن الشخص قد أخطأ خطأ شنيعاً وهذا الخطأ إذا نسبه
لغيره وإذا أجرم في حق غيره فيكون قد احتمل هذا البهتان.
سؤال: القرآن يستخدم خطيئة وخطاياهم وخطيئاتهم وخطيئاتنا، هل هناك ترادف في القرآن الكريم؟
هناك
ترادف في القرآن الكريم على سبيل المثال في سورة النساء سبيلاً طريقاً،
مثل شرعة ومنهاج وشريعة وكثيراً ما نجد ترادف في القرآن، أبو هلال العسكري
له رأي مغاير ويقول كل كلمة في القرآن لها معنى إلا ما دخل في اللغة
العربية أو تواتر على أنه من لهجات أخرى. وأبو هلال العسكري له كتاب سماه
"الفروق اللغوية" يفرق فيه بين الكلمات يقول هناك فرق بين القادر والقدير
والرماني له كتاب في الألفاظ المترادفة والمتقاربة المعنى، مرة قال رجل
أمام أبي علي الفارسي وهو أستاذ ابن جنّي قال إني أحفظ للسيف سبعة وخمسين
اسماً فقال ابو علي إني لا أعرف له إلا اسماً واحداً وهو السيف فقال الرجل
فأين الفرند والبتّأر والحسام؟ قال أبو علي هذه كلها صفات فأبو علي كان
ينكر الترادف في اللغة، والترادف في اللغة له أسبابه ومن ضمن أسبابه أنهم
لما جمعوا الكلمات يقولون أن العرب كانوا منقسمين في الجزيرة قبيلة هنا
وقبيلة هناك فما جاء علماء اللغة يجمعون اللغة من الأعراب كانوا يكتبون كل
كلام الأعراب، فقبيلة تسمي السكين وقبيلة تسمي المدية فجمعوا كل هذا ولهذا
المعاجم مليئة. لا توجد حدود فاصلة بين الكلمات لكن ربما هناك فوارق دلالية
بينها، يقولون مثلاً الصارم السيف وسمي بذلك لأنه شديد القطع، يقولون
الحُسام لأنه يحسِم المسألة، يبتّ في المسألة عندما يلجأ الناس إلى استخدام
السيف في الحرب فكأنهم يحسمون موقفهم باللجوء إلى القوة والاحتكام إليها.
والمشرفيّ من صفات السيف أيضاً.
سؤال: في الآية (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً) البهتان واضح والإثم واضح فما دلالة مبيناً؟
مبيناً
تدل على تقبيح هذا الإثم. مبيناً يعني واضحاً فجاءت مبيناً صفة تدل على
تقبيحه فتقول للناس إن هذا الإثم واضح ومن باب خفي تتهم من لا يدركه بأنه
لا يرى الواضح، وأيضاً لا ننسى الفواصل فهي تحكم في سورة النساء تنتهي بياء
ثم حرف ثم ألف التنوين مثل مبيناً، شهيداً، سبيلا.
سؤال: هل مراعاة الفاصلة تأتي على حساب المعنى؟
لا
يمكن، إن القرآن ليس ككلام الشعراء يخالفون القاعدة لأجل الضرورة الشعرية
ومن أجل الوزن، القرآن أعلى وأعظم من ذلك، الكلمة في القرآن تأتي في مكانها
ولو حاول واحد أن يغيّرها لظهر أنها ليست من القرآن.
سؤال: ربنا
سبحانه وتعالى وهو ينهى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء تتعدد الصيغ
داخل آي القرآن الكريم لكن ربما تكون متقاربة في الألفاظ فهل هي متقاربة في
الدلالة؟ مثل قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ
تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا
(144) النساء) (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء
مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي
شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ
نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ (28) آل عمران) في هاتين الايتين
الألفاظ تكاد تكون واحدة فما الذي أفاده هذا التكرار؟
آية في سورة
النساء وآية في سورة آل عمران. لو رجعنا إلى آية إلى عمران لوجدنا أن الله
سبحانه وتعالى يقول (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ
أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ
اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً
وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ)
سؤال: كيف نتخذ أولياء؟ وما هي الوِلاية والوَلاية؟ وما الفرق بينهما؟
الله
سبحانه وتعالى نهى المؤمن أن يجعل مرجعه إلى الكافر وأن يفضّل الكافر على
أخيه المسلم، نهى أن يكون الكافر قدوته ونهى أن يأتمر بأمره، نهى أن يكون
معه دائماً سواء كان على حق أو على باطل، نهى أن يكون مرجعه الكافر ونهى أن
يكون خضوعه لمشيئة هذا الكافر ونهى الله المسلمين عن أن يفضِّلوا الكفار
على المؤمنين بل إذا حدث نزاع بين مؤمن وكافر فعلى المؤمنين أن يكونوا مع
المؤمنين ولا يكونوا على المؤمنين. الله تعالى يقول في هذا الأمر (لاَّ
يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ
الْمُؤْمِنِينَ) أولياء مفردها وليّ والوليّ يعني هو يلجأ إليه. في سورة
الكهف قال (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ (44)) لما نقول فلان
وليّ فلان (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ (257) البقرة) يعني الله
يتولاهم والله يرأف بهم ويعطيهم ويرعاهم ويكلأهم، (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء
اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) يونس) هؤلاء
الذين والوا الله عز وجل يعني ساروا على نهجه وهؤلاء الذين اتبعوا سبيل
الله عز وجل، فالله سماهم أولياء لأنهم ارتضوا الله رباً ارتضوا الإسلام
ديناً وساروا في حياتهم على ما يسير الدين الحنيف.
سؤال: في قوله
سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا
غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ (13) الممتحنة) هل تتولوا هنا بنفس الدلالة؟
أي
لا تجعلوهم أولياء لكم ولا تكونوا لهم أولياء لأن العلاقة بين الطرفين
علاقة عداوة فهذا مؤمن يعبد الله عز وذاك كافر لا يعبد الله ويكفر به، فكيف
يكون المؤمن خاضعاً لغير المؤمن؟ كيف يكون محباً له ودوداً إلى أقصى حدّ.
سؤال:
الخطاب مختلف في الآيتين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ
تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا
(144) النساء) (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء
مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي
شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ
نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ (28) آل عمران) هنا نداء وهنا ليس
نداء، فلماذا؟ وما اللمسة البيانية؟.
النداء في سورة النساء لأن
الآية في سورة النساء جاءت بعد كلام الله عز وجل على المنافقين، الله عز
وجل فضح المنافقين وبيّن صفاتهم المعنوية والحسّية (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ
يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ
قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ
قَلِيلاً (142) مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ
إِلَى هَـؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143))
الله فضح هؤلاء المنافقين وقبلها ذكر شيئاً من صفات المنافقين بأنهم يتخذون
الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فلما ذكر الله أن المنافقين يتخذون
الكافرين أولياء من دون المؤمنين نادى المؤمنين باللقب الذي أحبه لهم (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء
مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) حتى لا يكونوا كالمنافقين الذين فضحهم الله في
الايات السابقة فناداهم باللقب المحبب إليهم. ونهاية الآية تبين تحذيراً
(أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا
(144)) هنا تحذير للمؤمنين. أما في سورة آل عمران فالآية جاءت بعد آيتين
عظيميتين في حق الله عز وجل (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي
الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن
تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ
النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ
الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ
الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ
إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ
وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ (28)) لم يكن هنا كلام على المؤمنين وإنما كان
كلاماً على عزة الله وأنه مانح العز ومانح الملك وهو مالك الملك يعطي ويغني
ويفقر ويحيي ويميت فأراد الله أن يبيّن للمؤمنين إن كنتم تؤمنون بهاتين
الآيتين في أن الله هو المحيي وأن الله هو المميت فلا تكونوا كالكافرين ولا
تكونوا كأهل الكتاب الذين ذمهم الله في الآية التي سبقت (أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى
كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ
وَهُم مُّعْرِضُونَ (23) آل عمران) فالله يقول لهم لا تتخذوا الكافرين
أولياء ونهاهم بنهي لطيف رقيق (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ
الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ). (وَمَن يَفْعَلْ
ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ
تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ) كلام في منتهى الخطورة، الله
نهاهم نهياً لطيفاً (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ
أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ) هذا نهي بأسلوب رقيق.
(إِلاَّ
أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً) إلا إذا ضاقت السبل بالمؤمنين ووجدوا
أنهم ضعفاء ووجدوا أن الكافرين أصحاب قوة وأصحاب سطوة وأن المؤمنين لا
قِبَل لهم بهم وأن المؤمنين لا يستطيعون أن يقضوا عليهم أو يتغلبوا عليهم
فهنا أحياناً المؤمن قد يُصانِع، قد يقول كلاماً يداري نفسه مداراة وليست
مداهنة وإنما هي مداراة ومصانعة حتى يسكت الكافر عنه حتى تحين الفرصة
ويتغير حال المؤمن من الضعف إلى القوة فعندها لا يمكن أن يكون ولياً للكافر
ولا يكون الكافر ولياً له، (إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً) إلا
إذا كان الكفار أعلى كعباً من المؤمنين وأقوى قوة وأشد سطوة.
سؤال:
في مكان آخر يحذرنا الله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ (51)
المائدة) هل هي نفس دلالة الولاية؟
هذه نفسها، (وَمَن يَتَوَلَّهُم
مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) نفس الدلالة ليس معناه أنه خرج عن الإسلام
خروجاً نهائياً ما دام يشهد أن لا إله إلا الله محمد رسول الله ولكن معناه
أنه صار مثلهم في تصرفاته، مثلهم في أخلاقه، مثلهم في عدائهم للمسلمين
ولكنه ما زال في حظيرة الإسلام ما دام قال أنه لا إله إلا الله محمد رسول
الله فهو مسلم. حصلت مناظرة بين الخليفتين عمر بن الخطاب وأبو بكر الصديق
رضي الله عنهما قال عمر أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله
فمن قالها عصم مني ماله ودمه إلا بحقها فقال أبو بكر هذا حقها وهذا السبب
الذي جعل أبا بكر الصدّيق يحارب المرتدين الذين منعوا الزكاة. إلا بحقها
يعني إلا بحق الإسلام. ولكن هنا الوضع أن من تولى اليهود والنصارى وفضلهم
على المسلمين فلا نقول أنه صار كافراً أي خارجاً عن الإسلام إلا إذا جهر
بكفره ما دام يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله.
سؤال: هل تختلف
الولاية باختلاف المنهي عنه باتخاذ ولاية المؤمنين له؟ هنا ينهانا ربنا
سبحانه وتعالى عن اتخاذ الكافرين وفي الآية الثانية ينهانا عن اتخاذ أهل
الكتاب اليهود والنصارى فهل هم كفار؟
هم أهل كتاب ولكنهم مخالفين
ومحرّفين لكتابهم فهم صحيح أنهم أهل كتاب لأنهم يقولون أنهم يؤمنون بالله
ويؤمنون بيوم القيامة وأنهم سيحاسبهم الله وأن هناك جنة وناراً فهم اختلفوا
عن الكفار في هذه الأمور ولكنهم اختلفوا عن المسلمين في أمور كثيرة.
سؤال: ما الفرق بين الكافر والمنافق وأهل الكتاب والمشرك؟
المشرك
رجل يعبد إلهاً دون الله أياً كان حتى لو عبد ملكاً وحتى لو عبد هواه، من
اتخذ إلهاً غير الله هو مشرك. الكافر من جَحَد، هناك كفر يُخرِج من الملّة
وكفر لا يُخرِج من الملّة، هناك كفر جحود وكفر استكبار وكفر إنكار، الكافر
الذي يقال عنه أنه خرج عن الملّة هو الذي أنكر أن الله واحد وأنكر الرسالات
وأنكر اليوم الآخر فهذا خرج عن الإسلام وخرج من الملة نهائياً. أما إن آمن
بالله وجحد شيئاً من الإسلام، أهل الكتاب يقولون نؤمن بالله سبحانه وتعالى
ونؤمن بأن هناك إلهاً ونؤمن بأن هناك يوم القيامة ونؤمن أن هناك جنة
وناراً ولكنهم حرّفوا فكفروا بالرسول صلى الله عليه وسلم فإيمانهم السابق
وكفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم يجعل إيمانهم لا ينفعهم.
إذن هنالك نهي صريح للمؤمنين عن عدم إتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، إذا إتخذنا أولياء فالولاية تكون للمؤمنين.
سؤال: كيف نفهم دلالة قوله تبارك وتعالى (فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ)؟
(فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ) أي أنه خرج من منهج الله وخرج عن دعوة الله وخرج على ما يرضي الله فيتبراً الله منه.
(وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ) احذروا غضبه واحذروا عذابه واحذروا أن تخالفوه.
سؤال: لماذا ختمت الآية بـ (وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ)؟
(وَإِلَى
اللّهِ الْمَصِيرُ) تذكير بيوم القيامة إذا كان هناك مبررات لمتابعة هؤلاء
واتخذاهم أولياء في الدنيا بحجة أن هؤلاء أقوياء فليتذطر المؤمنون بأن
هناك يوماً آخر وأن إلى الله المصير وما داموا يؤمنون بأنه إلى الله المصير
فإذن هناك حساب وهناك عذاب وهناك جنة ونار، هذا تخويف.
سؤال: ما معنى الوعد في اللغة العربية؟
أنا
وعدت الشخص بشيء يعني تعهدت بأن أعطيه له أو أنجر له هذا الشيء، الوعد
يستخدم في الأصل للشيء السارّ والوعيد للشيء المخيف، للهلاك مثلاً.
سؤال:
لما نقرأ قوله تعالى (وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ
وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا (68) التوبة) هذا وعد،
فكيف يأتي هذا الوعد مع نار جهنم؟
هذه من عادة استخدام القرآن في
التعامل مع الكفار والمنافقين مثل (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ
عَذَابًا أَلِيمًا (138) النساء) ومثل قوله تعالى للكفار (ذُقْ إِنَّكَ
أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) الدخان)، عندما يوجّه الكلام للكافر يوم
القيامة (ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) هنا لا يُمدَح وإنما
يسمع تقريعاً فالله يبيّن لهم ويقول لهم لكم وعد، فالإنسان عندما يستمع
الوعد يُسر فيفاجأ بأن الموعود به شيء مخيف مرعب ويحدث للمنافقين أشياء مثل
هذا يوم القيامة..
سؤال: مرة يقول تعالى (إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (169) النساء) ومرة (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي
الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ (145) النساء) هل هناك فرق بين النار
والدرك الأسفل؟
النار دركات والجنة درجات والجنة كلما تم الصعود إلى
أعلى كلما كان النعيم أحسن واقوى وأروع وإن أعلى الجنة الفردوس الأعلى.
وأما النار فهي دركات وكلما تم النزول إلى الأسفل كان العذاب أشد ويقول
المفسرون الدرك الأسفل من النار يضيّق عليهم في مكان فيكون العذاب فيه أشد
ما يكون وإنما جعل المنافقون في الدرك الأسفل ليتناسب مع ما فعلوه. وهذه
دركة، الويل واد في جهنم والدرك الأسفل أشد مكان في جهنم يكون فيه العذاب.
والمنافقين في الدرك الأسفل من النار إذن النار إسم جامع لكل الدركات كما
أن الجنة إسم جامع. الجنة إسم جامع لكل الدرجات، "إن في الجنة جنتين" هذا
دليل على أن الجنة تشمل الجميع. تقول أم حارثة أخبرني يا رسول الله عن
حارثة أهو في الجنة فأصبِر؟ قال: أَوَهَبُلْتِ أوجنة واحدة هي؟ هي جنان
كثيرة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى. والنار إسم لدركات النار، النار إسم
يضم الأسماء كلها، جهنم من ضمن أسمائها، ويل من اسمائها، الهاوية، سقر،
سعير، الحطمة، الجحيم وغيرها في القرآن.
سؤال: الآية الثانية فيها
وَعَدَ بالصيغة الفعلية (وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ
وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا (68) التوبة) والأولى
بالصيغة الإسمية (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ
النَّارِ (145) النساء)، ما الفرق بينهما دلالياً؟
سورة النساء
تحدثت عن المنافقين حديثاً أقل مما تحدثت عنه سورة التوبة، سورة النساء
نزلت قبل سورة النساء بسنوات، سورة التوبة نزلت بعد غزوة تبوك نزلت بعد
المائدة إذن هي من أواخر السور التي نزلت.
الآية الأولى (وَعَدَ
الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ
خَالِدِينَ فِيهَا (68) التوبة) جاء الوعد بصيغة الفعل بينما كانت في
السورة الثانية في سورة النساء بصيغة الإسم (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي
الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ (145) النساء) فلماذا؟ وهل هناك فارق
دلالي بين استخدام الفعل واستخدام الإسم في هذه الآيات؟
الجملة
الإسمية تعلن حكماً تاماً وهذا الحكم التام قانون. الله سبحانه وتعالى في
سورة النساء لم تكن السورة كلها مبنية على المنافقين ولم تكن الآيات كلها
مبنية على المنافقين. الآيات ذكرت المنافقين ولكنها لم تذكرهم بتفصيلاتهم
كلها كما حدث في سورة التوبة فجاء الحكم (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي
الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) بالجملة الإسمية ليوضح أن هذا مصيرهم
وأن هذا تأكيد أن هذا ما ستكون عليه نهايتهم بأنهم في الدرك الأسفل فجاءت
الجملة بالصيغة الإسمية لتدل على أنه حكم عام.
في سورة التوبة قال
تعالى (وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ
جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ
وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (68)) السورة تسمى الفاضحة لأنها فضحت المنافقين
فضائح كثيرة، هذه الفضائح الكثيرة التي حدثت في سورة التوبة ذكرت أفعالهم
وذكرت ما فعلوه من تخلفهم عن المؤمنين وعنادهم وكذبهم فناسب ذلك بعد تعدد
ذكر أخطائهم وجناياتهم ناسب ذلك فِعلاً هو (وعد) وجاء بصيغة الماضي ليدل
على الثبوت والتحقق كأنه قد حدث بالفعل (وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ
وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ
حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (68) التوبة).
إذن الإسم آكد من الفعل والفعل الماضي إذا ما قورن بالمضارع يدل على الثبوت
والتحقق وعندما يأتي الماضي ليبين حدثاً في المستقبل (وَعَدَ الله
الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ
خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ
مُّقِيمٌ (68)) وهذه النار ستكون في المستقبل وليس في الماضي يعني باعتبار
ما سيكون أن هذا الوعد سيكون في المستقبل، استخدام الماضي ليدل على أن هذا
الأمر قد ثبت وكأنه قد تحقق بالفعل.
سؤال: ماذا أفادت كلمة (خالدين) في الآية؟ هل هي على التأبيد؟
يدل على استمرارهم فيها.
(هِيَ
حَسْبُهُمْ) تدل على استمرارهم أي هي التي تناسبهم (وَلَهُمْ عَذَابٌ
مُّقِيمٌ) ما الذي افادته هذه الألفاظ (خالدين فيها، هي حسبهم، لهم عذاب
مقيم) مع أن المعنى الدلالي متقارب؟
هنا إطناب لتفظيع عقوبة الله عز
وجل للمنافقين، نلاحظ في سورة النساء (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي
الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) ذكر المنافقين فقط، وفي التوبة
(وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ
جَهَنَّمَ) هنا إطناب حتى بتمييز لم يغلّب لأنه لو قيل المنافقين فضمناً
المنافقات. في سورة التوبة كانت هناك تفصيلات لأخطائهم فناسب هذه التفصيلات
تفصيلات أفرادهم وتفصيل عقابهم، تفصيل بتفضيل وتعدد صفات بتعدد صفات
(وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ
جَهَنَّمَ) ولم تكتفي الآية بنار جهنم وإنما قال (خَالِدِينَ فِيهَا) ولم
تكتفي بذلك وإنما قالت (هِيَ حَسْبُهُمْ) ولم تكتفي بذلك فقالت
(وَلَعَنَهُمُ اللّهُ) ولم تكتفي بذلك فقالت (وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ)
هذا عذاب مغلّظ والواحدة تكفي ولكن كل سورة جاءت مناسبة لحالها ومناسبة
لوقتها. سورة النساء سورة تميل إلى جانب الإصلاح والقسط فمن القسط ذكر مصير
المنافقين أنهم في النار، سورة التوبة جاءت فاضحة لهم فكان من تفصيل
فضائحهم تفصيل عقوبتهم أيضاً.
في نهاية سورة النساء قال تعالى
(وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)) وفي التوبة (هِيَ حَسْبُهُمْ) يعني
ليس لهم نصير ولكنها تختلف في المعنى عن (وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا).
(وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) هذه فيها دلالة أنه لن ينقذهم أحد ولن يشفع
لهم وكانت مناسبة لما قبلها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ
تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ (144))
فالآية ترد عليهم أنهم اتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين فتقول لهم
في جهنم لن يكون لهم وليٌّ ولا نصير.
سؤال: لماذا فصّل مع المنافقين
والمنافقات وقال الكفار ولم يقل الكافرات؟ مع أنه ورد في القرآن (إِنَّ
الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ
وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ
وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ
وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ
كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ (35) الأحزاب) يذكر ويؤنث حتى مع المنافقين
والمنافقات؟
الكفّار الرجل يغلب في الكفر على امرأته يعني تسلط
الرجل في انتقامه من زوجته التي تُظهِر الإسلام أقوى من تسلط المنافق.
المنافق يفعل النفاق طواعية من تلقاء نفسه أما الكافر فقد يضرب لأنه يُعِلن
نفسه الكافر يعلن كفره وهو واضح ويعلن كفره وإعلانه لكفره يجعله إذا وجد
زوجته مسلمة فإنه يعاديها وبالتالي لا يقترن بها ولو ظلت معه لظلت كافرة
فإنها هي وهو شيء واحد. أما المنافق فقد يكون منافقاً ويخفي نفاقه وامرأته
قد تكون منافقة وتخفي نفاقها وإذا تلاءم الإثنان يكون كلٌ منهما عوناً
للآخر في النفاق فتتعدد الصور وبينت خطورتهم كيف يتعاون الرجال والنساء في
النفاق.
القرآن إستخدم كفار وكوافر (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ
الْكَوَافِرِ (10) الممتحنة) كوافر على وزن فواعل هذه على سنن العربية مثل
صاعقة وصواعق لكنها غير منتشرة. جمع فواعل هو من جموع الكثرة وكلمة كوافر
لم تستخدم كثيرة، (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) لم يقل كافرات
العدول عن الصيغة لم تقل الآية ولا تمسكوا بعضم الكافرات العدول عن الصيغة
من الكافرات جمع المؤنث إلى الكوافر جمع التكسير هنا الإشارة إلى أن
الإمساك بعصمة هذه المرأة الكافرة شيء غير مقبول وشيء غير معتاد فاتركوهن
ونتجية الأمر بتركهن تركت الآية أيضاً الجمع المتداول (كافرات) واستخدمت
الجمع غير المتداول (الكوافر).
سؤال: في سورة النساء يقول تعالى
(إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ
وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ
وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) النساء) وفي
التوبة (فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا
يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا
لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (74)) ذكر التوبة والإصلاح
والاعتصام والإخلاص في الآية الأولى وفي الثانية ذكر التوبة فقط؟
عندما
نريد أن ننصح طالباً مهملاً نقول له: استذكر دروسك تنجح، نصحناه بنصيحة
تتناسب معه استذكر دروسك ووعدناه بوعد الأول فقلنا تنجح لم نقل له ستكون
الأول على جميع الطلاب لأننا طلبنا مه الشيء الأول وهو الاستذكار. نفس
الشيء في الآية، الله في سورة النساء أراد أن يبين للمنافقين أنهم استحقوا
أن يكونوا في الدرك الأسفل من النار ثم بيّن لهم طريقة نجاتهم بالطريقة
التي تدعلهم في مصافّ المؤمنين، فلكي يكونوا في مصاف المؤمنين عليهم أن
يفعلوا ما يفعله المؤمنون، أن يتوبوا، أن يصلحوا، أن يعتصموا بالله، أن
يخلصوا دينهم لله، أن يفعلوا أفعالاً كثيرة فناسبها هنا الإطناب
(فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ
الْمُؤْمِنِينَ) التفصيل في سورة النساء هدفه رفع مكانتهم إن أرادوا أن
ترتفع مكانتهم وأرادوا أن يكونوا مع المؤمنين فعليهم أن يتوبوا وأن يصلحوا
وأن يخلصوا دينهم لله وأن يعتصموا بالله فإن فعلوا ذلك فأولئك مع المؤمنين.
أما في سورة التوبة فالأمر مختلف جداً، الآيات في سورة التوبة تركز على
جرائم المنافقين (يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ
كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ) الآيات تبيّن
فضائحهم وتبيّن جرائمهم وتبيّن غضب الله عز وجل عليهم فالله تقول لهم
(فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ) لكي يصلوا إلى أول مرتبة عليهم أن
يتوبوا، الآية تريد أن تنقذهم مما هم فيه فقط وبالتالي العطف (وَإِن
يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا) إما التوبة فيكون
هذا خيراً لهم وإما التولي عن التوبة فيكون في هذا العذاب (وَإِن
يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا). بينما في سورة
النساء (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ
وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ
وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)) هذا تجويد
بالعمل وزيادة ليكون هؤلاء في مرتبة أحسن إن أرادوا، أما في آية التوبة
تضمن لهم المكسب الأول فقط، تضمن لهم النجاة من العذاب فقط. ونلاحظ أن
الآية قالت (يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ) ولم تقل (يكن) وكما يقال زيادة المبنى
يدل على زيادة المعنى وكذلك قلة المبنى تدل على قلة المعنى - (وإن كانت هذه
القاعدة غير مضطردة إلا أننا نجدها هنا)- قال (تك) ولم يقل (تكن) هنا لأن
الآية تقول لهم (فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ (74) التوبة) ولم
تقل (تكن) لأن الآية تتحدث عن أول درجة مع أن (يكن) صحيحة لغةً لكن حذف
النون هنا جاء يبين أهم لم يصلوا إلى الخير كله بالتوبة وحدها فالتوبة لا
بد أن تكون نصوحة. (تك) الفعل مجزوم لأنه جواب الشرط وحذفت نون (يكن)
تخفيفاً لالتقاء الساكنين، حذف نون يكن المضارع يكون بعدها متحرك مثل
(وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا (40) النساء). مرة يثبت القرآن النون
ومرة يحذفها ولكن الحذف يدل على معنى (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) مريم) حذف
النون في هذه الآيات يدل على معنى. (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) مريم) يعني
حذف النون يدل على أنها لم تصل إلى أدنى درجة من البغاء. (وَلَمْ أَكُ
بَغِيًّا (20) مريم) (يك) يدل على تصغير في العدد وهو أيضاً تصغير في الخطأ
يعني إنها تنفي عن نفسها أيّ بغاء ولو كان قليلاً. وعندما يُثبت النون مثل
ثوله تعالى (وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) مريم) ينفي
الشقاء ليثبت أنه ليس شقياً بجميع الأحوال ليبين تمام فرحته ونعمته ولكنه
هو يدعو وعنده أمل في الإجابة وفي ذلك الوقت لم يكن عنده وعد بأن يحقق الله
له ما أراد.
سؤال: قد يسأل سائل خارج القرآن إذا جاء العكس "لم أكن بغياً" "لم أك بدعاء ربي شقيً" ربما يبرر العلماء ذلك أيضاً؟
إن
القرآن قد أنزل في أبهى صورة ونحن نحاول أن ندرك أسراره نحاول أن نصل إلى
أسراره فأحياناً يُذكر اللفظ بصيغة وأحياناً يذكر بصيغة أخرى ونحن نؤمن بأن
القرآن من عند الله عز وجل وأن الله تحدى به العرب وهم يعجزون عن الإتيان
بمثله بل وتحدى الإنس والجنّ، فهو في أعلى صورة ونحن نحاول أن ندرك السر
ولا نأتي بحجة مسبقة ونقول وإنما نحن ندرس النص كما هو ونحاول أن نفهم ما
فيه. إذا درست أسلوب العرب نعلم أن أسلوب القرآن هو الأعلى (قُرآنًا
عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ (28) الزمر). لكن من حيث اللغة يمكننا أن
نقول يك ويكن لكن بلاغة القرآن هو النص الأعلى، يعني بلاغة قوله (وَلَمْ
أَكُ بَغِيًّا) أعلى بلاغة من ولم أكن بغياً، (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) حذفت
النون أي ولم أصل إلى أي درجة من البغاء ولو كان قليلاً (وَلَمْ أَكُن
بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أُثبتت النون لأنه لم يكن قد وُعِد بأن الله
تعالى استجاب له هذه الدعوة والآية قيلت قبل (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا
نُبَشِّرُكَ (7) مريم)