أبو بكر الصديق رضي الله عنه
هو عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن كعب التيمي القرشي ، ولد بمكة ونشأ سيداً من سادات قريش ومحيطاً بأنساب القبائل وأخبارها . وكانت العرب تلقبه بعالم قريش ، حرم على نفسه الخمر في الجاهلية فلم يشربها . اشتغل بالتجارة وجمع ثروة كبيرة صار بها من أثرياء قريش ، وعندما أسلم كان يملك أربعين ألف درهم . وقد لقبه الرسول صلى الله عليه وسلم عتيقاً لأنه نظر إليه صلى الله عليه وسلم فقال : هذا عتيق الله من النار ، ولقبه أيضاً بالصديق ، حيث صدقه في حديث الإسراء وهو رفيق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة وثاني اثنين إذ هما في الغار ، آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر وعمر ، رآهما مرة مقبلين فقال : إن هذين لسيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين كهولهم وشبابهم إلا النبيين والمرسلين . وقد أقطعه صلى الله عليه وسلم داراً عند المسجد النبوي في المدينة ، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً وأحداً وثبت معه حين انكشف المسلمون . كما شهد معه المشاهد الأخرى ، وحمل الراية العظمى في غزوة تبوك ، وله كثير من المناقب والمواقف العظيمة والخصال الحميدة ، فقد أنفق ماله كله في سبيل الله . واحتمل الشدائد وقال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إنه ليس من الناس أحد أمَنَّ عليَّ في نفسه وماله من أبي بكر . ولو كنت متخذا من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر ، ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر )) ورُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (( أرحم أمتي بأمتي أبو بكر )) . واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم أميرا على الحج في أول حجة كانت في الإسلام ، فلما مرض النبي صلى الله عليه وسلم واشتد وجعه قال : مُروا أبا بكر فليُصل بالناس ، فقالت عائشة : يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق ، وإذا قام مقامك لم يكد يسمع الناس ، قال : مُروا أبا بكر فليصل بالناس فإنكن صواحب يوسف ، وعندما شعر صلى الله عليه وسلم بخفة دخل المسجد فلما سمع أبو بكر حِسَّه ذهب يتأخر فأومأ إليه صلى الله عليه وسلم قمْ كما أنت ، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً ومقتدياً بأبي بكر ، وهذا من التكريم والتشريف لأبي بكر . ولما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطرب المسلمون ، وخاصة عمر الذي هدد من يقول بموت محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن أبا بكر الصديق ثبت واستطاع أن يردهم إلى صوابهم . بُويع بالخلافة في سقيفة بني ساعدة سنة 11 هجرية ، فأنفذ بعث أسامة الذي جهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحارب المرتدين والممتنعين عن الزكاة ، وافتُتحت في أيامه بلاد الشام وقسم كبير من العراق . وأوصى بالخلافة من بعده لعمر بن الخطاب . له من الأولاد عبدالله وأسماء ذات النطاقين وعبد الرحمن وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها . ومحمد وأم كلثوم . كانت مدة خلافته سنتين وستة أشهر ونصف الشهر . توفي في المدينة في العام الثالث عشر للهجرة وعمره أربع وستون سنة .
المدينة في خلافة أبي بكر رضي الله عنة
11 هـ ــ 13 هـ
كانت المدينة المنورة في معظم هذا العهد عاصمة الدولة الإسلامية المتنامية ومركز توجيه الفتوحات ونشر الإسلام في الأمصار ، ومركز الحركة السياسية والنشاط الاقتصادي .
تولى أبو بكر الصديق الخلافة بعد مداولات بين المهاجرين والأنصار جرت في سقيفة بنى ساعدة ، فبعث جيش أسامة بن زيد الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجهيزه قبل وفاته إلى أطراف الشام ، وامتنعت بعض القبائل التي لم يتمكن فيها الإسلام بعد عن دفع الزكاة وارتدت بعض القبائل وادعى بعض الأفراد النبوة ، وجمعوا حولهم أنصارهم، واقتربت قبائل أخرى من المدينة طمعاً ببعض المغانم ، واجتهد أبو بكر رضى الله عنه في تثبيت الأمن في المدينة ، وقاد بنفسه حملات سريعة لإبعاد الطامعين وتأمين المدينة .
ولما عاد جيش أسامة بالنصر والغنائم جهز حملات أخرى لتأديب مانعي الزكاة وقتال المرتدين والمتنبئين ، وصارت المدينة منطلقاً لحملات نشطة استطاعت أن تعيد الأمن والطمأنينة إلى الجزيرة العربية ، ثم تحولت إلى حركة فتوحات في الشام والعراق . وانخرط كثير من أهل المدينة في الجهاد واستشهد عدد كبير منهم معظمهم من حفظة القرآن ، فأمر أبو بكر بجمع القرآن في مصحف موحد فجمع ..
ووردت إلى المدينة الغنائم والسبايا ، واعتق الكثير منهن وتزوجن ، لينشأ جيل جديد تتعدد دماؤه . وتوفى أبو بكر في 22 جمادى الآخرة عام 13 هـ والمدينة عاصمة لمنطقة واسعة تشمل الجزيرة العربية كلها وجنوب بلاد الشام .
عمر بن الخطاب رضي الله عنه
( 40 ق هـ ــ 24 هـ )
هو أبو حفص عمر بن الخطاب بن نفيل القرشى العدوي . ثانى الخلفاء الراشدين وأول من لقب بأمير المؤمنين . كان فى الجاهلية من أبطال قريش وأشرافهم وله السفارة فيهم ، ينافر عنهم وينذر من أرادوا إنذاره. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو قائلاً : اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك ( عمر بن الخطاب أو أبى جهل ) فكان أحبهما عمر بن الخطاب . أسلم قبل الهجرة بخمس سنوات وكان المسلمون مستضعفين فخرج عمر إلى المشركين وجاهر بإسلامه وتحداهم ، وعندما هاجر إلى المدينة مر على مجلس قريش وأعلن عن هجرته وأنذرهم أن يتعرض أحد له ، شهد مع النبى صلى الله عليه وسلم الغزوات كلها وقاد بعض السرايا أميراً عليها . وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كان المستشار الأول لأبى بكر الصديق ، ولما توفي أبو بكر الصديق تولى عمر الخلافة سنة 13هـ ، وفي عهده فتحت الشام والعراق والقدس والمدائن ومصر والجزيرة ، وهو أول من وضع التاريخ الهجرى واتخذ بيت مال للمسلمين ، وأول من جمع الناس على صلاة التراويح فى المسجد ، وأول من اتخذ الدرة يؤدب بها المخالفين ، وأول من عس بالمدينة ، وجلد فى الخمر ثمانين جلدة ، وأول من أنشأ الدواوين وفرض الأعطيات . كان متواضعاً خشن العيش والمطعم شديداً فى الحق قليل الضحك ، على وجهه خطان سوداوان من البكاء ، وكان نقش خاتمه ( كفى بالموت واعظاً يا عمر ) وله آثار كثيرة ومناقب عظيمة ، ومن ذلك أنه خرج ذات ليلة فوجد امرأة معها صبيان يبكون من الجوع وقدر على النار فيها ماء تعللهم بها ليناموا ، فبكى عمر رضى الله عنه ورجع يهرول إلى دار الدقيق فأخرج كيساً من دقيق وجراب شحم وقال : يا أسلم احمله على ظهري فقال : أنا أحمله عنك . فقال : أنت تحمل وزري يوم القيامة ! فحمله على ظهره وانطلق إلى المرأة ووضع من الدقيق فى القدر وألقى عليه الشحم وجعل ينفخ تحت القدر والدخان يتخلل لحيته ساعة ثم أنزلها عن النار ووضع الطعام للأطفال فأكلوا وشبعوا والمرأة تدعو له دون أن تعرفه . ولم يزل عندهم حتى ناموا وأعطاهم نفقة وانصرف. وهناك الكثير عن مواقفه العظيمة . وكان فى عام الرمادة( عام وقع فيه القحط والمجاعة ) لا يأكل إلا الخبز والزيت حتى اسود جلده ، وكان يقول : بئس الوالى أنا إن شبعت والناس جياع . وكان شديداً على عماله يحاسبهم في نهاية ولايتهم عبى أموالهم وممتلكاتهم الخاصة فيسأل كلا منهم : من أين لك هذا ؟. وكان يأمر عماله أن يوافوه بالموسم فإذا اجتمعوا قال : أيها الناس إنى لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم ، إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم وليقسموا فيأكم بينكم ، فمن فعل به غير ذلك فليقم . ومن فضائله ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : دخلت الجنة فرأيت فيها داراً أو قصراً فقلت لمن هذا فقالوا لعمر بن الخطاب فأردت أن أدخل فذكرت غيرتك . فبكى عمر وقال : أي رسول الله أو عليك أغار . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر استأذن عليه وعنده نساء من قريش يكلمنه ويكثرن عاليه أصواتهن فلما استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك ، فقال عمر : أضحك الله سنك يا رسول الله . فقال صلى الله عليه وسلم عجبت من هؤلاء اللا تى كن عندى فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب . قال عمر : فأنت يا رسول الله أحق أن يهبن . ثم قال عمر أى عدوات أنفسهن أتهبننى ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلن نعم أنت أغلظ وأفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذى نفسى بيده مالقيك الشيطان قط سالكاً فجا إلا سلك فجا غير فجك . وقد نزل القرآن موافقاً لرأي عمر فى أكثر من حادثة ، يقول رضى الله عنه : وافقت ربى فى ثلاث : فى مقام إبراهيم وفى الحجاب وفى أسارى بدر . وبعد أن حج عمر سنة 23هـ دعا الله عزوجل وشكا إليه كبر سنه وضعف قوته وانتشار رعيته وخوفه من التقصير ، وسأله أن يقبضه إليه وأن يمن عليه بالشهادة فى المدينة ، فاستجاب الله له الدعاء ، فطعنه أحد الحاقدين على الإسلام ( أبو لؤلؤة المجوسي ) وهو يصلى الفجر ، وحمل إلى داره وظل ثلاثة أيام ، وأوصى أن يكون الأمر شورى بعده فى ستة ممن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض . ومات أول المحرم سنة 24هـ ودفن بالحجرة النبوية إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبى بكر .
المدينة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنة
13 ـ 24 هـ
تولى عمر بن الخطاب الخلافة سنة 13 للهجرة ، وكان إدارياً حازماً صاحب اجتهاد وفراسة ، فانتدب الناس للجهاد وتوسيع الفتوحات فى بلاد الشام وفارس وفتحها الله فى عهده ووردت الأموال الكثيرة إلى المدينة فأحدث عمر ديواناً للعطاء فرض فيه لكل مولود مسلم راتباً سنوياً يأخذه طوال عمره، وأحدث دواوين الجند والبريد ، وحرص على تفقد أمور الرعية بنفسه ، فكان يخرج فى الليل والنهار ويطوف فى الأسواق والشوارع ويتتبع أحوال الناس باهتمام بالغ ، فعاشت المدينة سنوات من الطمأنينة والرخاء والازدهار وهاجر إليها كثيرون واتسع العمران ، وضاق المسجد النبوى بالمصلين فأضاف إليه عمر أرضاً من الدور المجاورة ووسعه . وفى سنة 18 هـ أحدث القحط مجاعة فى المنطقة وزحفت القبائل إلى أطراف المدينة تستغيث فخصص لها عمر ما يكفى من الطعام وأقام الموائد الجماعية وكتب إلى الأمصار يطلب النجدة ، وكان يطوف بنفسه على البيوت والخيام ويراقب توزيع الطعام وهو جائع لا يأكل حتى يأكل الأخرون ، ثم جمع الناس وعلى رأسهم العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى بهم صلاة الاستسقاء فكشف الله الغمة وهطلت الأمطار ووصلت النجدات من الأمصار كما وصلت غنائم الفتوحات وخاصة كنوز كسرى وحاشيته فوزعها عمر على الناس ، ونفذ عمر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراج غير المسلمين من جزيرة العرب ، وصفت المدينة وبقية الجزيرة للمسلمين ، وانتشر العدل والرخاء وطلب عمر من الله أن يرزقه الشهادة فى المدينة ، فاستجاب له ، وطعنه أبو لؤلؤة المجوسى الحاقد على الإسلام والمسلمين وهو فى صلاة الفجر فتوفي بعد ثلاثة أيام في أول المحرم سنة 24 هـ .
عثمان بن عفان رضي الله عنه
( 47 ق هـ ــ 35هـ )
هو أبو عبد الله عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أمية القرشى الأموى أمير المؤمنين . ذو النورين ثالث الخلفاء الراشدين وأحد المبشرين بالجنة ورابع من دخل فى الإسلام . زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته رقية ، وهاجرت معه إلى الحبشة الهجرتين ثم عاد إلى مكة وهاجر إلى المدينة . لم يشهد بدراً لأن زوجته كانت فى مرض الوفاة فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالإقامة عندها وضرب له بسهمه ، فصار كمن شهد بدراً . وله من السيدة رقية ( عبد الله ) الذى عاش ست سنوات ثم مات ، ثم زوجه الرسول صلى الله عليه وسلم بعدها بابنته الثانية أم كلثوم ، فلما توفيت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أن لنا ثالثة لزوجناك . وله مناقب عظيمة ، منها أنه جهز نصف جيش العسرة بماله فبذل ثلاثمائة بعير بأقتابها وأحلاسها وتبرع بألف دينار ، ومنها أنه اشترى بئر رومة وأوقفه للمسلمين . ويروى أنه استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بئر أريس فأذن له وبشره بالجنة مع بلوى تصيبه . يقول عنه علي رضى الله عنه: ذاك امرؤ يدعى فى الملأ الأعلى ذا النورين كان ختن ( صهر ) رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنتيه وضمن له بيتاً فى الجنة .
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لكل نبى رفيق ورفيقى ــ يعنى فى الجنة ــ عثمان . وهو ممن نزل فيهم قوله تعالى ( ونزعنا ما فى صدورهم من غل ) وروي أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صعد أحداً ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف الجبل فقال : أثبت أحد ، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان . بويع بالخلافة بعد وفاة عمر بن الخطاب، افتتحت فى أيامه أرمينية والقوقاز وخراسان وكرمان وسجستان وإفريقية وقبرص . وأتم جمع القرآن الكريم فنسخ المصحف الذى جمعه أبو بكر الصديق وأحرق ما عداه . وهو أول من أمر بالأذان الأول ، وقدم خطبة العيد على الصلاة واتخذ الشرطة واتخذ داراً للقضاء ،وكان أبو بكر وعمر يقضيان فى المسجد . حدثت فى الفترة الأخيرة من خلافته فتنة فنقم الناس عليه لاختصاصه أقاربه من بنى أمية ببعض الولايات ، وأجج هذه الفتنة رجل يهودى هو ( عبد الله بن سبأ ) فجاءت الوفود من مصر والكوفة والبصرة وحاصروا داره ومنعوا عنه الماء والخروج إلى الصلاة حتى يتنازل عن الخلافة ، فرفض لأن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : يا عثمان إنه لعل الله يقمصك قميصاً فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم . وبلغ أصحاب الفتنة أن جيشاً من الشام قادم لنجدته فاقتحموا عليه داره وهو يقرأ القرآن وقتلوه رضي الله عنه ، وذلك فى شهر ذى الحجة سنة 35 هـ .
المدينة في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه
24 ــ 35 هـ
تولى عثمان بن عفان رضي الله عنه الخلافة بعد استشهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في محرم سنة 24 للهجرة ، وكان فى السبعين من عمره ، غنياً وديعاً ليناً . عاشت المدينة ـ والبلاد الإسلامية الأخرى ـ ست سنوات من خلافته فى سعة وطمأنينة ، وكتائب الجهاد تفتح البلاد والخيرات تفد على المدينة والناس يشتغلون بالعلم وبأمور حياتهم اليومية وتتسع المدينة فتصل إلى جبل سلع والقبلتين وقباء ويبدأ البناء على وادى العقيق ويتفقد عثمان أحوال السوق بنفسه . وفى عام 29 هـ جدد عمارة المسجد النبوى فبناه بالحجارة المنقوشة ووسعه ، وفى عام 30 هـ كلف بعض الصحابة بتدقيق المصحف وفق النسخة التى جمعت فى عهد أبى بكر وكتبت نسخة موحدة مدققة وأرسلت نسخ منها للأمصار ، ومضت السنوات الست فى حياة أهل المدينة هادئة وادعة وعثمان يسع الناس بحلمه فى أمورهم الدنيوية ويقف بالمرصاد لأى انتهاك للحرمات ويقيم الحدود وانتشر الثراء بين عدد من أهل المدينة .
على بن أبى طالب رضي الله عنه
( 23 ق . هـ ــ 40 هـ )
هو أبو الحسن علي بن أبى طالب بن عبد المطلب الهاشمى القرشى . أمير المؤمنين ، رابع الخلفاء الراشدين وأحد العشرة المبشرين بالجنة وابن عم النبى صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته فاطمة الزهراء ووالد الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة ، كناه النبى صلى الله عليه وسلم بأبى تراب وهو من الخطباء والعلماء بالقضاء المعدودين وأول الناس إسلاماً من الغلمان ، عاش فى حجر النبى صلى الله عليه وسلم منذ طفولته، وعندما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم نام فى فراشه ، وبقي بعده أياماً فى مكة ليقضي ديونه ويرد ودائعه ثم هاجر إلى المدينة . شهد جميع الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يحمل اللواء فى أكثرها ويتقدم للمبارزة ، وفى غزوة بدر بارز شيبة بن عتبة وقتله ، وفى غزوة الخندق قتل فارس العرب وأحد شجعانهم عمرو بن عبد ود العامرى ، وفى غزوة خيبر قال صلى الله عليه وسلم ( لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، وفي الصباح دعا عليا ، وكانت عينه مصابة بالرمد فدعا له وبصق فى عينه فبرأ ولم يرمد بعدها ، وأعطاه الراية ففتح الله على يديه وقتل مرحبا اليهودى ، ويروى فى ذلك من شجاعته وقوته أن يهودياً ضرب عليا فطرح ترسه فتناول بابا عند الحصن وتترس به فلم يزل فى يده حتى فتح الله على يديه ثم ألقاه من يده . وفى عمرة القضاء قال له صلى الله عليه وسلم ( أنت منى وأنا منك ) وفى غزوة تبوك استخلفه النبى صلى الله عليه وسلم على المدينة فقال : يا رسول الله أتخلفنى مع النساء والصبيان ؟ فقال ( ألا ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبى بعدى ) . وروي أنه لما نزل قوله تعالى ( فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ...) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال : اللهم هؤلاء أهلي . ومنه ما روي أن النبى صلى الله عليه وسلم أخذ رداءه ووضعه على علي وفاطمة وحسن وحسين وقال ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) و من فضائله ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بيت فاطمة وقال لها أين ابن عمك ؟ قالت كان بينى وبينه شىء فغاضبنى فخرج ولم يقل عندي ، وعلم النبى صلى الله عليه وسلم أنه فى المسجد فذهب إليه وهو مضطجع فيه وقد سقط رداؤه عن شقه فأصابه تراب فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول قم أبا تراب قم أبا تراب . وبعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم بايع الصديق وكان أحد وزرائه ، ثم بايع عمر وجعله على القضاء ومن مستشاريه ، وكان أحد الستة أصحاب الشورى الذين أوصى عمر بالخلافة فيهم ، ولما قتل عثمان بويع على بالخلافة سنة 35 هـ فخرجت السيدة عائشة والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله يطلبون بثأر عثمان ويرفضون بيعته ، فكانت وقعة الجمل سنة 36 هـ ورفض معاوية بن أبى سفيان مبايعته ، وكان أميراً على الشام ، فاستعصى بها وجمع جيشاً من أهلها فتوجه إليهم علي بجيشه والتقى الفريقان فى معركة صفين وانتهت المعركة بالدعوة إلى التحكيم ، ثم انتهى التحكيم بانقسام الناس إلى ثلاثة أقسام ، قسم بايع معاوية ( أهل الشام ) وقسم بايع علياً ( أهل الكوفة ) وقسم خرج على علي وكفروه لقبوله التحكيم فسموا الخوارج . وقد ناقشهم على طويلاً فلم يستجيبوا . فقاتلهم فى النهروان ( 38 هـ ) وعاد إلى الكوفة . وفى 17 رمضان سنة 40 هـ اغتال أحد الخوارج ـ واسمه عبد الرحمن بن ملجم ـ علي بن أبى طالب رضي الله عنه وهو فى صلاة الصبح .
المدينة في خلافة علي بن أبي طالب
36 ـ 40 هـ
تولى على بن أبي طالب رضي الله عنه الخلافة سنة 36 للهجرة بعد استشهاد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وكان همه الأول إعادة الأمن والطمأنينة إلى المدينة والقضاء على جذور الفتنة فيها ، ثم فى الأمصار التى انطلقت منها ، واستطاع إخراج المتآمرين منها ، وأبعد الأعراب الذين حاولوا أن يستغلوا ظروف الفتنة فزحفوا إلى ضواحي المدينة وانتظم الأمن ، وبدأ بمعالجة شؤون الأمصار فعزل الولاة الذين ثارت حولهم الشائعات واستغلها أصحاب الفتنة وأرسل ولاة آخرين .. ولكن الفتنة انتقلت من المدينة إلى خارجها ، فقد طالب بعض الصحابة ـ وعلى رأسهم السيدة عائشة رضي الله عنها ـ بالقصاص من القتلة وكانت قد خرجت من المدينة للحج قبل استشهاد عثمان ، فلما بلغها استشهاده توجهت إلى العراق مع جمع من الصحابة ، ورفض معاوية بيعة على ورد واليه على الشام ورفع شعار الثأر لعثمان ، فاضطر على للخروج بمن تطوع معه لوقف انتشار الفتنة وتوجه للجمع الذى رافق السيدة عائشة رضي الله عنها لإقناعهم بالعودة إلى المدينة ، ولكن بعضهم استطاع أن يثير القتال بين رجال على والجماعة المحيطة بالسيدة عائشة ، وقتل عدد من الصحابة حول الجمل الذى كانت تركبه السيدة عائشة ، واستطاع على ورجاله أن يضبطوا الأمور وينهوا القتال ، وعادت السيدة عائشة ومرافقوها إلى المدينة معززة مكرمة ، ولكن علياً وجيشه لم يعودوا بل توجهوا إلى الكوفة ونزلوا فيها يعدون لمواجهة الخلاف مع معاوية . واستخلف على المدينة سهل بن حنيف الأنصاري فبدأ الهدوء يخيم على الحياة فى المدينة وبدأت تبتعد عن الأحداث الكبيرة التى تجرى فى العراق والشام ، ولكن عدداً من أبنائها كانوا مع علي رضي الله عنه فى الكوفة وفى صفين وفى التحكيم بينه وبين معاوية . وتوقف النزوح إليها وباستثناء من بقي من أهلها والوافدين لزيارة المسجد النبوى والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعد يقصد المدينة أحد ، وتقلص عدد سكانها وتقلصت الحركة الاقتصادية فيها تبعاً لذلك ، وفى عام 38 هـ توفي سهل بن حنيف أمير المدينة فولى علي أبا أيوب الأنصاري ، وكان متقدماً فى السن وديعاً فحافظ على سيرة خلفه ، وقل عدد القوافل القادمة فازداد الاهتمام بالزراعة لتأمين الحاجة الأولية للغذاء ، وعندما شغل علي بقتال الخوارج فى العراق أرسل معاوية جيشاً إلى المدينة بقيادة بسر بن أرطأة فتركها أبو أيوب ودخل الجيش سلماً وأخذ البيعة لمعاوية ولكن بسر بن أرطأة نقض الأمان لمن اتهموا بمظاهرة الخارجين على عثمان وقتل من وصل إليهم وهدم دورهم . ثم خرج من المدينة بجيشه واستخلف عليها أبا هريرة فعاد أبو هريرة بالناس إلى حياة الطمأنينة ودروس المسجد النبوى ، وابتعد بالناس عن الفتنة . ثم جاء جيش لعلي بن أبى طالب بقيادة جارية بن قدامة . فترك أبو هريرة المدينة . ووصل جارية مع وصول خبر استشهاد علي بن أبى طالب فى الكوفة فأخذ البيعة لابنه الحسن بن علي ثم خرج ليلحق بالحسن وعاد أبو هريرة فأحسن الناس استقباله ، وواصل سيرته القويمة فيهم ، وعاش أهل المدينة تلك الفترة حياتهم بين مشاغلهم اليومية ، وحلقات العلم فى المسجد النبوى . وما لبثت الفتنة أن خمدت عندما تنازل الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية ، وعاد بمن معه من أهل المدينة إليها ، وتحولت المدينة إلى مدينة هادئة ، وصارت إمارة من إمارات الدولة الأموية الجديدة .